عُزلَةُ الِنَعمة أم نِعمَة العَزلة

فضفضة نصف معتزل..

طالما أننا نعيش مصيراً واحداً قد ألجأنا إليه هذا الميكروب، وجعل الناس فيه سواسية كأسنان الحمار..

 واعتذر عن سَوق هذا المثل الذي قد يراه البعض عديم الوقار وفيه خروج عن طوق اللباقة، فالأمثال تتنزل بحسب الأحوال، والعرب تسوق هذا المثل على سبيل الذم والنقيصة لكل قبيلة يتساوى أفرادها في الفضائل والمعاني ويكون الجميع فيها سواسية كحال الناس اليوم، فقد سلب هذا الميكروب امتيازات البشر وأعدم رفاهيتهم وفرض عليهم واقعاً جبرياً لا يطيقون معه إلا التسليم. لقد زرع بين أجسادهم التناكر والبغضاء، بعدما كان التصافح والتعانق أبلغ سلوك تعبيري اجتماعي إزاء من نحبهم، صار الجميع ينطق بصمت مبين.. ” لا مساس ” شعاراً أمسى لكل لناس.

انتقل إلى صورة أخرى من واقع الناس حينما أُلجِئوا قسراً إلى لزوم منازلهم قطعاً لدابر العدوى وفشوها بينهم، ولاَحِظوا هنا أنني قلت: أُلجئِوا قسراً، وهذا مثار عَجَب ومبعث اندهاش، إذ المفترض أن الناس تنساق لهذا السبب حبُاً وطَوعاً لا تبرماً وكرهاً، لاسيما ومعائشهم مكفية وحوائجهم مقضية، غير أنك تكتشف أنهم يساقون إلى منازلهم ومآمنهم  بالعسف والقهر سَوق الأنعام، وأعجب من ذلك أن ترى من يختلق الحيل  ويبتكر الأخاديع للهرب إلى حيث هَلَكته في سبيل نزوة وضيعة لا تَعدِل في ميزان المتعة شروى نقير، وتراه يبذل قُرباناً لها حياة والده أو ولده أو زوجه أو حياتهم أجمعين.

وأنا أنزه جنس الحيوان حينما أشبهته بهذا المخلوق المرَيد، فإن الحيوان يعلم بغريزته ما ينفعه وما يضره، إلا أن هذا المستأنس يعلم ولكنه لا يكترث، وترانا إذ نرتضي مجافاته لصوت عقلة فكيف نتصور أن ينخلع من إيهاب عاطفته ويُدخِل أسباب الموت والضرر على نفسه وأهله.. فمن أحق بالحيونة إذاً.!  تتواثب في ذهني عبارة (نيتشه)

 ” إن القرود أكثر طيبة من أن يكون الإنسان قد تحدر منها “

انتقل إلى الصورة الأعنف غرابة وهي حينما أَصفَقَت الدور على أهلها وأمسى الناس رهن الإقامة الجبرية..

 أقول.. هل لامسكم إحساس الوحشة الذي تملكهم وحالة التناكر التي حاقت بهم؟ لقد كانوا ينظرون إلى بعضهم نظر المغشي عليه من الموت، رجالاً ونساءً شيباً وولداناً، وهذا لعمرك من اختلال الفطرة وشذوذ العادة أن أضحت علاقة الناس بمنازلهم أشبه بعلاقتهم بأماكن الخلاء وقضاء الحاجة، ومن الشديد على النفس أن تمكث النفس في مكان قضاء الحاجة من غير ما حاجة،

وكنت أتساءل.. ما الذي جعل الناس تنفر من بيوتها ولا تجد الطمأنينة إلا في الشوارع والأسواق والمجامع..، ما هذا السلوك الشاذ الذي تواطأت على هضمه عوائد الناس الرديئة واستمرأته أطباعهم الهجينة وأصبح الوجود في الشوارع أصلا،ً والمكث في الدور عرضاً..؟

حتى ألفيت تعليلاً لطيفاً لأحد الحكماء يصف هذه الطفرة السلوكية الاجتماعية، سأسوقه بتصرف غير مخل.

 يقول الحكيم: إنما يستوحش الإنسان بالوحدة لخلاء ذاته وغياب الفضيلة من نفسه، فيتكثّر حينئذ بملاقاة الناس طلباً لطرد الوحشة والوحدة عن نفسه بالانغماس معهم.

وأقول من ههنا يرسم السَوَقَة ملامح المجتمعات، فترى الكل لا يحمل بين جنباته سوى الفراغ..  فراغ يلتحق بفراغ هرباً من الفراغ، ولك أن تتصور هيئة المجتمعات حين تُصاغ بأخلاق الفارغين، والعاقل الكيس لا يستقيم له حال ولا يستقر له مقام إذا انغمس في جوف هذه الغيمة الفارغة العقيم التي لو اعِتَصَرت لن تمطر إلا التفاهة والسفة،

 ينقل الخطابي رحمه الله عن العزلة، “أن لو لم يكن فيها إلا السلامة من صحبة العامة والراحة من تعب مجالستهم ومصابرة أخلاقهم وما يستفيده الإنسان من مفارقتهم وكفاية مؤونة تقويمهم وأمنه من غوائلهم في حرصهم على أنفسهم أو إذا أمحض النصح لهم”. وأقول: من ذا الذي يسلم من عَادِية الناس ويأمن بوائقهم في دينه أو دنياه أو بهما معاً وهو يتقلب بينهم،  إن مجانبة هذا الواقع متعين على العاقل بل أنه في أحيان يكون قربة إلى الله.

ويظن الجاهل أن الاستكثار من الناس عِصمة له من صروف الدهر، ونجاة من تنكب النعم وتبدل الزمن وهذا من صميم الغفلة ومن جسيم الغرور لكن الفطن الحصيف يدرك هذا لحال و أن الاستكثار من الناس لا يورث إلا الغم والهم والخيبة والأسى.

 ألم يقل الأول: وما أكثر الإخوان حين تعدهم … ولكنهم في النائبات قليلُ

وإن كان هذا حال الإخوان فماذا تلتمس من سائر الناس.

ينقل عن أحد السلف كلام لطيف ظريف جامع لهذا المعنى، يقول: ” إن من إخواني من لا يأتيني في السنة إلا اليوم الواحد، فهؤلاء هم الذين أعدهم للمحيا والممات، ومنهم من يأتيني كل يوم فيقبلني وأقبله ولو قدرت أن أجعل مكان قبلتي إياه عضه لعضضته”. وأقول: هذا لعمرك عين الحق، ألم ترَ إلى الناس في مجالسهم ومجامعهم كيف يقابل بعضهم البعض بالقبل والأعناق وما إن يتفرقوا وينفض سامرهم يسلق بعضهم البعض بالسنة حداد.

ومن فواحش العوام في هذا الزمان نظرتهم المتدنية لمن رام اعتزال جمعهم وجانب سخف واقعهم، ولو علموا بباطن شعوره تجاههم وما يعتمل في دخيلته إزاءهم لا تستكثر أن يسلطوا صبيانهم ويحرشوا مجانينهم عليه يوسعونه شتماً وضرباً كلما رأوه في الغدو والآصال، فقد قيل للفيلسوف ( طيماوس) لم صرت تسئ لقول في الناس؟ قال لأنه لا يمكنني ان أسيء إليهم بالفعل، ويذكر ايضاً أنه كان مرّة في الصحراء، فقال له إنسان: ما أحسنَ هذه الصحراء، فقال: لو لم تحضرها أنت.

وينقل أن شريكاً القاضي رحمه الله خرج من دار المهدي فاحتوشه أصحاب الحديث فانبرى له رجل فقال: أتريد أن اطردهم عنك يا أبا عبد الله، فقال: وانطرد معهم.

 تلك الأنفس وإن رأيتها تخوض راغمة في فلك الغوغاء إلا أنها سرعان ما تخَنُس إلى ملكوتها المقدس وإن حسبت الجسد هائماً في مدارج المحسوس فإن حقيقتها منجمعة إلى بعضها تتوقى أدنى باعثٍ يهيج جمعها.

لذا ينقل عن أحد السلف انه يقول: إني لأتمنى المرض، فقيل له ولمَ ذلك.! قال: حتى لا أرى الناس.

                                                              

   وكتبه: محمد بن إبراهيم الهدلق

6 رأي حول “عُزلَةُ الِنَعمة أم نِعمَة العَزلة

  1. مقال جميل من كاتب مفوه وافق هواي في حب العزلة ومقت الاختلاط…
    دائما متألق في كتابات يا أبا طلال… والى مزيد من التميز…

    Liked by 1 person

  2. 😄

    أسلحة مسنونة وأعيرة موجهة بحذاقة مع الكثير من الأحماض اللاذعة في اللفظ والوصف، تثير فضول القارئ وتحثه على المضي في السير تحت وطأت القصف ليعبر خطوط وأسطر المقال 😅.

    إن المقال يوحي بألفة وميول بين الكاتب والوحدة، وإن كان نقده الساخن موجهاً للفئة المتطرفة في الجهة المقابلة (وهم كثر) فقد أجلى واستعرض فكرة عميقه قد لم يلتفت لها الكثيرون. كما وقد وأشار الشيخ الطنطاوي لها في تفسيره لآية (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
    وكما أن المقال طرح النقيضين وفصل في السيء منهما وربطه ربطاً جميلاً في معنى الوجود للانسان وأهمية الجدية في معالجة ظروف الحياة لكل مستقل حتى لا يكون عالة وأصعب من البهائم في الانسياق والفهم، لأنك عندما تتعامل مع شيء على خلاف خصائصه الأساسية والمعروفة فإن الأمر حينها يصبح معضلة، فيكون التعامل مع الحيوان السوي المنسجم مع خصائصه الأساسية أسهل من التعامل مع إنسي قد أنسلخ بفعله أو بفعل فاعل عن خصائصه البشرية.

    ولعل القارئ يستنتج منطقة الاعتدال والمعنى من حب المعتزلين لعزلتهم وبغض الغوغاء لها.

    وإن من أبرز ماشدني قول الحكيم:
    إنما يستوحش الإنسان بالوحدة لخلاء ذاته وغياب الفضيلة من نفسه، فيتكثّر حينئذ بملاقاة الناس طلباً لطرد الوحشة والوحدة عن نفسه بالانغماس معهم.
    إلى جانب ماقاله الخطابي رحمه الله.

    وتقبل مني كل الود والمحبة ولو كانت عن بعد.

    Liked by 1 person

  3. بوركت بانتقاء الكلمات .. (وتراه يبذل قُرباناً لها حياة والده أو ولده أو زوجه أو حياتهم أجمعين.) الوصف هنا ابلغ من الكلام .

    ابوحازم.

    Liked by 1 person

التعليقات مغلقة.